Recent Tube

test

اخر الاخبار

Post Top Ad

Your Ad Spot

Saturday 9 December 2017

رواية " تناديه سيدي" للكاتبة: فيوليت وينسبير الفصل 1

سألها:
" أيمكنك مقاومة من يريدك؟".
فسألته بدورها" ومن يريدني؟".
وعندها شعرت أنها أصبحت ضعيفة كالماء بين ذراعي المركيز.
"أنني هربت من كينيث امام اصدقائه, كذلك عرف ريك أننا أمضينا ليلة الضباب معا... أو هو عرف على الاقل أنني كنت ليلتها مع رجل".
" ألم تقولي له أنني كنت ذلك الرجل؟".
"ماكنت لأستطيع وإلاعلمت الجزيرة كلها وتوقعت زواجك مني".
" إذا لم توافقي على زواجنا فسأعمل على أن تعلم الجزيرة كلها لأنني أريدك, ولأنك بالنسبة الي فتنة العالم كله".
احتجت قائلة : "وهل يتزوج المركيز من خادمة؟ ".
اجاب باعتزاز: " هذا المركيز يفعل تماما مايريده".




1- مطر الغابات

دوّت صفارات الأنذار , وذعر الركاب , وإرتطمت زوارق النجاة بالماء , وأنقلب أحدها أثناء إنزاله من جانب الباخرة المائل , وأحسّت أيفين بلغريم بلفحة هواء الليل , وبهبوط مفاجىء في جوف البحر , فغطى الماء رأسها وكاد يلفّها إلى أن طغت على سطح الماء بفضل قميص النجاة الذي ترتديه.
كان ذلك أشبه بكابوس لا طاقة لاها على الخلاص منه , وكان رأسها يمتلىء بصرخات هلع الركاب , ولكنها في الوقت نفسه راحت تتذكّر الموسيقى التي كان الركاب يرقصون على أنغامها في صالون الباخرة , نغمات حلوة عاطفية تابعتها أيفلين بنقرات قدمها , وتاق معها قلبها إلى رفيق يراقصها.
منتديات ليلاس
ولكن أحدا لم يقترب منها أذ كانت تنزوي في سمت إلى جانب مخدومتها , ونظارتها على وجهها , وشعرها معقود كالعكعة , كانت السيدة ساندل تقوم برحلة بحرية في الشواطىء المشمسة بناء عل نصيحة طبيبها , وقد وقع أختيارها على أيفلين لمرافقتها بعدما تأملت حاشية بيتها , وكانت أيفين تعمل لدى عائلة ساندل منذ كانت في الخامسة عشرة , أولا كمربية للأطفال ثم خادمة ورفيقة للسيدة ساندل السريعة الغضب , وكانت أحتياجات أيفلين وأحلامها كفتاة في التاسعة عشرة بعيدة عن يدها وإدراكها .
ومنذ بداية الرحلة توقعت ايدا من مرافقتها أن تلازمها بإستمرار ,وقالت لها بطريقتها الحادة الآمرة:
" أنت فتاة عاقلة وتعرفين مكانك وحدودك , فلا تتوقعي المشاركة في اللهو والمرح مع ركاب الباخرة الشباب , أو السباحة دوما في بركة الباخرة أو الرقص والمغازلة".
وما دانت أيفين لتحلم بالوقوع في الغرام على ظهر الباخرة , ولكنها ودّت لو تتمتع بمشاركة من هم في سنّها ألعابهم على سطح الباخرة بدلا من مطالعة جين أوستن لأجل السيدة ساندل , وودّت شيئا من التغيير المبهج كأن تتنزه على سطح الباخرة برفقة أحد الشباب.
لم تجتذب هذه الفتاة الصغيرة ذات الثوب البسيط والنظارة التي تلازمها , أنتباه أي فتى على سطح الباخرة , لعلهم أفترضوا أنها خجولة للغاية , أو أنها تخشى رفيقتها مما قد يجعل صحبتها غير مثيرة , ولم يكن لديهم أية فكرة بأن تحت ثوبها غير الأنيق يدق قلبا فتيا دافئا يتوق للمغامرة.
مغامرة! لقد شعرت أيفين بتخدير حركة البحر وهي تطفو طوال الوقت مبتعدة عن الباخرة المنكودة , شيء ما قد أنفجر في غرفة محركها , وفي دقائق معدودة وبشكل جنوني غمرت المياه السفينة , كما غمرها دوي صفارات الأنذار , الكل فوق سطح السفينة , والكل أخذوا أماكنهم المحدّدة لهم ! وكانت أيفين أول الأمر هي التالية بعد السيدة ساندل التي ما عادت واثقة من شيء , وراحت في هلع اليائسة تمسك بحقيبة حليّها وحقيبة يدها , وحين أصبح أحد زوارق الأنقاذ جاهزا نحت أيفين جانبا , وبسبب أندفاع الركاب غابت السيدة ساندل عن أنظار أيفين , ولحظة أنقلب الزورق تناهت ألى سمع أيفين صيحة ربما كانت صيحة السيدة ساندل التي لم تعرف طوالها حياتها غير التدلل , والآن يتقاذفها البحر الذي قد يقسو عليها .
طغت أيفين فوق الماء وعادت برغم دوارها تدرك أنه لا توجد أجسام أخرى طافية تؤنسها , كانت صيحات ركاب الباخرة المنكوبة تتلاشى وراءها , وشعرت بصمت رهيب يلفها , ومع أن البحر كان يبدو خلال النهار أزرق دافئا , فهو الآن بارد , وكأن الحياة كلّها تخرج من أطراف جسمها.
رأت أن تغني أو تصيح صيحة صغيرة حزينة في سكون الليل :
" آه ".
ولكن لا مجيب ولا سميع , ولكونها خفيفة الوزن حملها قميص النجاة بعيدا عن سمع الركاب الآخرين , سرعان ما تكون وحيدة تماما وسط المحيط بين ساحل أسبانيا الصخري وساحل أفريقيا الشمالي.
يا له من أمر مخيف , أن أندفاعها في مياه غريبة أعاد إليها صور وحدتها في السنوات الماضية حيّة من جديد , وأخذت الذكريات تتكاثر عليها , وقد صدق قول الناس , أن المرء حين يغرق يعود إليه ماضيه حيا.
جاءت من مكان في سومر ست يدعى كومب سانت بليز , وكان هناك حجر فوق الأرض يسمى الملاك الأسود أعتادت يوم كانت طفلة أن تلعب حوله وتجمع الزهور البرية لتحملها إلى الكوخ الذي تعيش فيه مع أبيها حارس الطيور , فأمها مانت بعد ولادتها , وقد أحبّت هي والدها , الرجل القوي البنية بشعره الأحمر الداكن , والذي كان يعنى بطيور منتزه عائلة ساندل الواسع حيث البيت الريفي.
منتديات ليلاس
وهي تعلم أنهما من أقارب آل ساندل من ناحية أمها , ولكنها قرابة بعيدة , وكانت أحيانا تسمع مبكرا صوت أبواق الصيد حين يخرج رجال العائلة ونساؤها عبر أراضي الصيد لمطاردة الثعالب الحمراء , وبسبب الثعالب كرهت أيفين آل ساندل المتغطرسين غير الرحماء , وكانت تأمل أن لا تعمل أبدا في خدمتهم مثل والدها.
ما أعظم سومرست , هكذا كان يقول أبوها , لم تكن هناك زهرة برية لا يعرفها بإسمها , ولا طير لا يمكنه تقليده.
رتعشت أيفين في الماء كما سبق أن أرتعشت في الكنيسة يوم دفن والدها , كان كله حيوية , وفي يوم منحوس مات أثر رفسة حصان أحد الصيادين , وصمت صوته الحنون إلى الأبد.
أحدى الجارات ربطت لها شعرها , وهو في لون أوراق الخريف , بقوس أسود كبير , وكان أبوها يقول أن شعرها كمطر الغابات ناعم ورائع.
بعد الدفن لم تنعم ألا بالقليل من أسباب الراحة , فهي مجرد أبنة حارس يتيمة , الأذرع الحنونة لم تعد تمتد إليها , خدّرها الحزن , وحبست دموعها في كيانها , نقلوها إلى البيت الريفي , ووضعوها في غرفة صغيرة , وفي اليوم التالي بدأت تعمل في غرفة أطفال كان يشغلها طفلا أبن أيدا ساندل وزوجته.
كل شيء تغيّر بسرعة وبشكل محيّر , كانت أيفين قبل يوم حرّة تجوب البرّية , وبعده أخذت تتلقى الأوامر من آل ساندل , وبمرور بضعة أشهر في خدمة الطفلين , شرعت أيدا تستخدمها كخادمتها الخاصة , وعادت إلى ذاكرة أيفين سهرة الصيد الراقصة , بعد عام من وفاة والدها , تذكرت وصول الضيوف في عطلة نهاية الأسبوع , والساعات الطويلة التي كانت تقضيها في ترتيب شعر أيدا , ومساعدتها لها في إرتداء ثيابها , وسماع الموسيقى تنساب إلى الرواق حيث تجلس عند السلم المؤدي إلى العلية , وتذوب في أحلام مستحيلة.
كان في إمكانها أن تهرب وتمارس عملا في المدينة , ولكن ماذا تعرف عير حمل صواني الشاي , وإصلاح الثياب , والمشي مع كلاب أيدا وتأمين قصصها ودعك قدميها.

كان في إمكانها أن تهرب..... وقد هربت الآن ...... جرفها البحر وهي في قميص النجاة أشبه بحطام سفينة , تكاد تموت بردا وذعرا , والظلام يزحف حولها , وضاعت نظارتها التي كانت أيدا ساندل تصر على أنها ضرورية لها , وأنطلق شعرها من عقدته المحبوكة في مؤخرة عنقها , وألتصق ثوبه الصوفي بجسمها النحيل , وشعرت بالدوار كطفل إستبد به النعاس.
ترى هل يغشاها النوم الأبدي الذي لا صحوة منه؟ وهل ستحظى ثانية بشبح الفارس الطويل القوي يضمها بين ذراعيه ويقول لها أنها ستصبح أميرة في قلعتها الخاصة؟ وبينما الأمواج تغطيها تساءلت هل سيكون ذلك مؤلما؟ لم تسمع في الليل غير دقات هي بالتأكيد دقات قلبها ترن في أذنيها وتشتد , وفجأة أصبح كل شيء مجرد أمواج كثيرة تطوقها في مثل بياض البرق.
صرخ أحدهم.... وأمواج أخرى كثيرة تغطيها وتخنقها , ثم , صوت لطمة على الماء تقترب منها , ويدان من حديد تطبقان عليها , ولغة لم تستطع فهمها , وأحست برجل يمسك بها وهي تتعلّق به كأنه صخرة في البحر المضطرب.
إستيقظت أيفين فيما بعد لتجد نفسها متدثرة بأغطية في مضجع حجرة صغيرة , كانت ترقد مذهولة وتشعر بحركة الزورق , وبدفء جميل يسري في أطرافها , وكان معنى هذا أنها في أمان ولم تغرق.
وأتسعت عيناها حينما أنفتح باب الحجرة ودخل رجل يرتدي قميصا صوفيا سميكا عالي الرقبة , كان نحيل الوجه أسمر البشرة أقبل ناحية المضجع وأنحنى فوقها وتأمل وجهها بعينيه السوداوين وسألها بالأسبانية عن حالها.
لم تفهم قوله أبتسمت له , أنه الشاب الذي أنتشلها من البحر وأنقذها , وبكل أمتنان قالت :
" شكرا لك".
أبتسم لها كذلك وتركها تستريح من محنتها , كان وسيما قوي البنية كأنما لا شيء يخيفه , وأدركت أن فارسها البحار المنقذ أسباني لطيف.
وصل الزورق إلى الميناء مع طلوع الفجر , وقدّم لها البحار أبريق قهوة ساخنا وقميصا صوفيا وبنطلونا من الجينز وما أن أرتدتهما حتى كانت الشمس تنفذ من كوة الحجرة , وبنظرة إلى الخارج تبينت أيفين وسوّ الزورق عند شاطىء أشبه بحاجز رصيف ناتىء , كما تبيّنت أن الرائحة التي تفوح في الهواء هي رائحة أشجار صنوبر عالية قريبة من الشاطىء , صعدت سلما ضيقا إلى سطح الزورق , كان زورق صيد بمحرك آلي , ألتصق برصيف الميناء الحجري , وكانت على الرصيف فتاة تداعب نسمات الصباح بأطراف شالها الذي غطّت به رأسها , تحملق بالزورق عندما قفز منه منقذ أيفين وأحتواها بين ذراعيه , تعلّق كل منهما بالآخر , وراحت أيفين تراقبهما وهي تحس بشعور الوحدة ينتابها.
أنتظرت أيفين بضع دقائق , ثم مشت فوق الزورق بأتجاه الرصيف حيث أمتدت إليها يد الشاب القوية , كان شعرها قد جفّ ولمع من أثر الملح وأنسدل على كتفيها , وقميصها المستعار يتدلى فوق الجينز , وبدت كشريدة عصفت بها الأمواج.
تطلعت إليها المرأة ذات الشال بفضول , كانت جميلة وسمراء كالشاب البحار , وإبتسمت أيفين عندما قدم لها المرأة ببساطة قائلا بالأسبانية :
" زوجتي ماري لويز".
الآن بعد زوال الدوار فهمت أيفين قوله , أذ عادت تتذكر بعض الكلمات الأسبانية التي تعلمتها مع أيدا ساندل , وأبتسمت شبه إبتسامة حين أدركت أن فارسها المنقذ رجل متزوج سعيد!
رافقت الزوجين إلى بيتهما القائم بجدرانه البيضاء وسط أشجار الصنوبر , وهناك كان طفلهما ينام في سريره , غير بعيد عن أكواز الصنوبر والخشب المشتعل في المدفأة , وتحدّثت ماري ليز مع زوجها , فأستأذن وخرج من المطبخ.
سمعتها أيفين تقول لزوجها :
" أمريتو أتصل بالسيد الكبير".
وتطلّعت أيفين ألى ماري ليز التي كانت تعد المائدة وسمعتها تقول ثانية :
" السيد الكبير , حدثه يا أمريتو عن السيدة الأنكليزية , أفهمت ؟".
يبدو أن أمريتو على وشك أن يسلمها إلى سيد كبير في هذه المنطقة , تأملت أيفين الطفل النائم في مهده بإعجاب , وأكلت البيض المقلي الذي أعدته لها ماري ليز , وكانت تتناول فنجان قهوة حينما عاد أمريتو وأفهمها أن سيارة ستأتي لتنقلها إلى قصر السيد الكبير.
نظرت أيفين من النافذة وتساءلت :
" أين أنا ؟ أي جزء من أسبانيا هذا؟"
أخذت ماري ليز تهدهد إبنها بين ذراعيها , وتركت لزوجها الشاب مهمة الأجابة , وعلمت أيفين بشيء من الذهول والذعر أنه جيء بها إلى جزيرة على الساحل الأسباني تدعى , جزيرة دي ليون.
وما أن أستوعبت الحقيقة المذهلة , حتى سمعت صوت سيارة تتوقف خارج البيت , وفتح أمريتو الباب وخرجت أيفين إلى نور الشمس الذي كان يتخلل الشجر ويسطع على هيكل السيارة الرابضة هناك , سيارة ليموزين عليها شعار أسد فضي في مقدمتها وهلال على أبوابها , وألتقطت أيفين أنفاسها , إن آل ساندل لم يركبوا سيارات مثلها , ولم يكونوا من الأهمية بحيث يكون لهم شعار أو نبالة.
برز من وراء مقود السيارة سائق في بدلة ملونة وفتح الباب , إبتسمت أيفين وهي تودّع الزوجين وشكرت أمريتو قائلة:
" أنت أنقذتني ولساني عاجز عن شكرك بما فيه الكفاية".
رد أمريتو :
" في رعاية الله".
قبّلت أيفين خصلات شعر الطفل , وأرتمت داخل سيارة الليموزين , شعرت بنعومة مقاعدها المخملية وأمتلأت بالزهو , أنها لم تحلم أبدا بأن تقذفها الأمواج ألى جزيرة وتركب سيارة يقودها سائق خاص , كانت السيارة مزودة أيضا بسجادة تحت قدميها ووسادة خلف رأسها فجلست في غاية الراحة , وأخذت السيارة تترك طريق الغابة وتصعد في طريق جبلي دائري.
وأخيرا توقفت السيارة , وفتنها المنظر الطبيعي ولمعان البحر الذي يلف جزيرة دي ليون , من يكون دي ليون هذا , أيمكن أن تكون جالسة في سيارته التي أخذتها إلى قصره ؟ كانت تسمع عن بعض النبلاء الأسبان الذين لا يزالون يعيشون كاللوردات الأقطاعيين في هذه المناطق النائية , أن زوجة البحار الذي أنقذها كانت تسمي الرجل الذي استدعاها بالسيد الكبير.
فجأة أمسكت أيفين مقبض باب السيارة الداخلي الفضي , وأحست بطعنة من الشك والخوف , أرادت أن تطلب من السائق أن يعيدها إلى عائلة أمريتو الطيبة التي تعيش في كوخها الوديع , ولكن لغتها الأسبانية لا تسعفها , فهي لا تعرف غير كلمات وعبارات قليلة, وليس من بينها : ( أوقف السيارة , أريد الخروج من هنا ).
حملقت من نافذة السيارة , ورأت صخور الشاطىء وشجر الصنوبر والصمغ , ومسحة ذهبية تعلة الجبال البعيدة , وزرقة أخاذة لمياه البحر .
كان البحر الذي وقعت فيه الليلة الماضية مخيفا , أما الآن فهو أشبه ببركة مملوءة بياقوت أزرق , وحين نظرت إلى المياه البعيدة لحظة زاد صعود السيارة إلى أعلى التل , فكرت في حال مخدومتها أيدا ساندل , هل نجت؟ وهل ستسعى للأستعلام عن خادمتها أيفين بلغريم؟
أيفين تعرف أن إسمها الأول غريب , قال لها أبوها أنه أختاره من كتاب حكايات خرافية , ولم تكن أبدا ساندل تحب إسم أيفين الخرافي , لهذا كانت تناديها دائما بأسمها العائلي , كانتتقول لها:
ط دلكي رقبتي يا بلغريم , خذي الكلب إلى الحديقة يا بلغريم ....".
صحيح أن الرحلة البحرية الأخيرة بدت مثيرة , ولكن ما من شيء تغيّر بالنسبة إلى أيفين على ظهر الباخر , إلى أن دوّت صفارات الأنذار ومال قارب النجاة ووقعت في البحر الذي قذفها قريبا من شاطىء تلك الجزيرة فأنقذها البحار الأسباني الشاب.
جزيرة دي ليون , أمتلأت عيناها العسليتان بالعجب , كيف لها أن تنسى الحكاية الخرافية التي أختار أبوها أسمها منها , أيفين كما تقول الحكاية فتاة أعانها أسد في صراعها مع التنين!
حينما تمهّلت السيارة في منعطف بالطريق الحلزوني , لمحت أيفين أبراج قلعة أشبه بقلاع القصص الأسبانية فأحست بأشتداد دقاق قلبها وهي تتأمل روعة المكان , كانت القلعة أشبه بسجادة ساحرة , أراجها تشق السماء الزرقاء الذهبية , وفوق أحد الأبراج يرفرف علم عائلي , والألوان الذهبية والقرمزية تنتشر مع الريح والشمس.
تنفست أيفين بهدوء , لم يكن حلما لأنها أحست بالريح على خديها , وشمّت رائحة شجر الصنوبر وملح البحر في الهواء , لم يكن حلما لأن السيارة دخلت إلى فناء القلعة , ورأت أيفين تمثال أسد حجري يعلو المدخل.

دارت السيارة حول بئر حجرية وسط الفناء , ثم توقفت أسفل سلم يؤدي إلى بهو , ونزل السائق وفتح باب السيارة المجاور لأيفين , فأسرعت بالخروج وراحت تتأمل السلم وشعار النبالة الذي يعلو البهو.
أنها تدخل بيت أسرة عريقة ,ولا بد أنه يحفل بالمحبة والأطفال .
قال السائق وهو يشير إلى باب من الحديد المشغول في جدار الفناء:
" أسمحي لي".
وفتح البوابة ودخلت أيفين إلى باحة مرصوفة بهرتها , خيّل إليها أنها تمشي داخل لوحة , وأحست أنها بهذه الثياب الغريبة تبدو شاذّة وسط الزهور العطرة التي تملأ الباحة حول النافورة , والورود التي تلتف حول أعمدة الممشى , قالت:
" ما أحلى الزهور والورود!".
أجاب السائق بأدب:
" حقا يا سيدتي , سيد القلعة رجل غني للغاية".
راحت تسير إلى حيث يقودها السائق عبر باب زجاجي مفتوح على قاعة ثم نحو سلم فخم من الرخام والحديد المشغول.
توقف السائق أمام باب مزدوج من الخشب المحفور , وطرق الباب مستأذنا وأمسك بالمقبض البرونزي وفتحه تاركا أيفين تدخل الغرفة وحدها.
وقفت أيفين مشدوهة عند العتبة تتأمل أثاث الغرفة الكلاسيسكية وسقفها وجدرانها المكسوة بألواح الخشب البنيّة اللامعة , وكانت على الجدران لوحات أسبانية ذات أطارات مذهبة , وكذلك سجادة حريرة عليها صورة طفل.
منتديات ليلاس
خطت خطوة إلى الأمام , وفي الحال أنغلق الباب وراءها وأتسعت حدقتاها حين تركزتا على السيد الطويل القامة الذي وقف ينظر إليها عند أحدى النوافذ , كان يدخن سيكارا رفيعا , وبدت لها ملامحه كالنسر وعيناه لامعتين باردتين , وكانت عظام خديه تضفي على وجهه مسحة شيطانية , وأنفه الكبير يتناسب مع فمه المهيب , وقف بلا حراك قبالة النافذة ذات الزجاج الملون , بلفه السكون ودخان سيكاره , وشعاع من الضوء الياقوتي يتلاعب فوق شعره الأسود الكثيف الذي تتخلله بضع شعرات فضية.
كان أسبانيا مرموقا فيه نبل وتحفظ وحزن, يرتدي ثيابا حيكت بمنتهى الدقة , مما زاد في شعور أيفين بغرابة ثيابها.
أخذ السيد يقيّمها من رأسها حتى قدميها , وتعقّدت أصابعها بعصبية فوق بنطلونها الجينز الذي طوت ساقيه من فرط طولهما , وأنبهرت لعظمة الرجل وفخامة محيطه , ولم تجد في تلك اللحظة , الشجاعة لتفتح الباب وتلوذ بالهرب من عينيه العميقتين وفمه الذي لا يعرف الأبتسام على ما يبدو.
" أنت الفتاة التي أنقذها مريتو من المحيط؟".
" نعم".
قالتها وقد أنخلع قلبها من الأثارة , ومع أنها كانت تعلم قبل أن يتحدث أن صوته سيكون عميقا ومغناطيسيا , فأنها لم تكن تعرف أنه سيحدثها بأنكليزية صحيحة تماما مع لكنة أسبانية , كان صوته ساحرا قويا كنظرته.
" ما أسمك؟".
" أسمي..... أسمي أيفين بلغريم يا سيدي".
أشار إلى كرسي مخملي عالي الظهر وقال:
" أجلسي لنتحدث".
سرّها أن تجلس قبل أن تخونها ساقاها , كانت ترتعش , لم تشعر أبدا في حياتها هكذا ..... بالتأكيد هذا هو الخوف من أول نظرة!
أبتعد عن النافذة ولاحظت أنه يمشي مستعينا بعصا سوداء , وأن ساقه اليسرى ليست على ما يرام, وعندما وصل إلى المدفأة التي يعلوها شعار عائلته أنحنى أنحناءة بسيطة وقال بصوت عميق يفرض الطاعة:
" أنا دون خوان دي كونك واراندا , المركيز دي ليون".
شعرت بالأغماء بعد سماع إسمه الرنان , هو أذن مركيز الجزيرة , لورد أقطاعي يحكم من قلعته , ولعّل كلمته هنا هي القانون ".
" عندنا مثل يا آنسة بلغريم يقول : الأسباني قد يجرحك ولكنه لن يسلخ جلدك على الفور , لا تنظري إليّ بمثل هذا الأضطراب!".
زاد أضطرابها عن قبل أذ أصبح الآن على مقربة منها وقد تركزت عيناه على وجهها وعلى فمها الذي لم يمسه رجل.
سألها:
" ألا يعجبك بيتي يا آنسة ؟ كثيرون يجدونه جميلا ببرجه البحري , وبساتين لوزه , ونافورة باحته".
أجابته :
" بيتك قلعة يا سيدي".
كرر بسخرية :
" بيتي قلعة ". وسأل : " ألم تدخلي قلعة من قبل؟".
أجابت أيفين وقد خفضت ذقنها :
" كلا يا سيدي , ماذا تفعل مرافقة مثلي في قلعة؟".
لمس بأصبعه الورود المنسقة في مزهرية فوق المدفئة الرخامية وأمتزج عبير الورود برائحة دخان سيكاره , وقال :
" حقا , ماذا تفعل؟ ". وأستطرد سائلا: " كم عمرك يا آنسة بلغريم؟".
جلست مبهوتة , فسؤال كهذا لا يسأله رجل من مواطنيها على هذا النحو المباشر , وقطب هو جبينه , وتذكرت أنه أذا سأل المركيز دي ليون سؤالا فعليها الأجابة بدون تردد , بغض النظر عن خصوصية السؤال.
" في التاسعة عشرة يا سيدي".
" حسبتك أصغر".
وأخذت عيناه تتفحص قوامها النحيل في الثياب الفضفاضة التي أعطاها إياها أمريتو , وأبتعد عن المدفأة وعرج بأتجاه طاولة صغيرة فوقها صحن عنب حباته كالذهب , وأخذ الصحن وناوله إلى أيفين , وقال :
" أنت صغيرة ويحسن بك أن تكثري من الفاكهة ".
وأرتسمت على شفتيه إبتسامة باهتة وأضاف:
" أنها من كروم القلعة".
كانت حبات العنب لذيذة , ولكن أيفين شعرت بالخجل بسبب العينين السوداوين اللتين تتطلّعان إليها وقد تناولت ثلاث حبات أو أربع.
سألها وقد وقف أمام الصورة وهو يتكىء بشدة على عصاه:
" هل أطعمك أمريتو؟".
لاحظت أيفين أن ساقة تؤلمه , وأن فمه الجميل يعلوه حزن يقربه منها .
" زوجته قدمت لي أفطارا يا سيدي .... كان مصيري الموت لولا أمريتو".
قال وهو يتأملها من خلال دخان سيكاره :
" أهدأي , كان شيئا لا يصدق بالنسبة إليك , كان كابوسا وعليك نسيانه".
" كان الناس يصرخون والسفينة تغرق!".
" لعل كثيرين منهم قد نجوا مثلك".
" كنت أسافر كمرافقة للسيدة ساندل , وأتساءل......".
" أذا كانت هي أيضا قد نجت؟".
" نعم يا سيدي".
قالت أيفين ذلك وقد أتسعت عيناها من الأسى , صحيح أنها لم تشعر أبدا بمحبة كبيرة لسيدتها , ولكنها عرفت تجربة الغرق في المحيط المظلم والخوف يزحف إلى قلبها.
" سأطلب الأستفسار عنها ". ثم نظر إليها وإستطرد : " أتودين العودة إليها أذا كانت قد نجت؟".
" كلا!". أنطلقت الكلمة قبل أن تتمكن من كتمانها : " أظن أنه يتوجب عليّ ذلك ...... فلا شيء لديّ , لا ثياب ولا مال".
" هل تفضلين البقاء هنا".
لم تصدق أيفين أنها سمعت العبارة صحيحة , ولكنها في لمح البصر وكأنما هزّها إنفجار قنبلة أيقنت أنها سمعتها بوضوح تام , وتطلعت إليه بحيرة لتفهم دعوته , هو مركيز وهي مجرد مرافقة , أتراه يعرض عليها وظيفة خادمة في القلعة؟ فسألته بصوت خافت:
" أتسمح لي بالعمل هنا يا سيدي؟".
مرة أخرى إرتسمت الأبتسامة المقتضبة على شفتيه وقال:
كلا يا آنسة , أنا أدعوك للبقاء هنا فترة , أن خدمي كلهم من الرجال بأستثناء مدبرة المنزل".
" ولكن....".
رفع حاجبيه وقال:
" ولكن مناذا , كان واضحا أنك غير راغبة تماما في العودة إلى عملك السابق , ألا تفضلين البقاء هنا في القلعة؟".
سألته وهي تشعر بشيء من العذاب:
" بأية صفة؟".
" بصفة ضيفتي يا آنسة بلغريم , أتظنين أنك أثرت عواطفي؟".
أنتابها الحياء , وأحسّت بعينيه تتابعان سريان هذا الحياء من خديها إلى شعرها الذي جعده البحر , طمأنها بسخرية:
" أؤكد لك أنني لا أمارس حق السيد على كل أنثى تطأ الجزيرة , أنت فتاة مشردة وستمكثين هنا , هذا ما أراه".
أستقرت أيفين في الكرسي المخملي الطويل الظهر , وبين يديها صحن العنب الذهبي , ماذا عن عائلته؟ لن يسرها بالتأكيد أن تحل فتاة تعيسة مشرد ضيفة عليها؟
أتكأ على عصاه وأمهن النظر إليها كأنها شيء غريب في غير موضعه داخل هذه الغرفة الجميلة , إلا أن شيئا قد جذبه إليها , فسألها :
" ما هو الأعتراض الآن؟".
" ماذا تقول عائلتك؟".
" ليس عندي عائلة".
وفجأة أعتلت وجهه خشونة , وكأنما مسّت جرحا كان يخفيه , وأضاف:
" لا زوجة ولا أولاد عندي , في القلعة بعض القطط وكلب صيد كما ترين".
وضرب بعصاه قدمه اليسرى ثم قال:
" وها أنذا أعرج كالشيطان".
وسرت قشعريرة في كيان أيفين , أجل أنها أحست من اللحظة الأولى للقائه أن هناك شيئا شيطانيا في هذا الرجل! سألته منزعجة:
" تعني أنك ستكون مسؤولا عني؟".
" سيكون ذلك شيئا جديدا".
وقرع جرسا فضيا لأستدعاء أحد حاشيته , وتابع:
" أرى أن الأنكليزية لا تريد أن يطوقها أحد بجميله , ولكن الجزيرة بعيدة جدا عن الأرض الأم ( أسبانيا ) وعليك قبول ضيافتي , شئت أم أبيت".
" هذا كرم منك يا سيدي".
" كرم؟ أنا عملي وأسباني , بيتي بيتك!".
منتديات ليلاس
نظرت الى ما حولها من سجلد غني بألوانه اللامعة والى المزهرية الذهبية , وشعرت كأنها شحاذة بين يدي أحد الكلوك!".
" كل الأجراءات اللازمة سيجري تنظيمها مع البوليس الأسباني ".
قال ذلك ثم نظر الى الباب وهو ينفتح وتدخل منه أمرأة , كانت متجهمة الوجه ترتدي ثوبا أسود , وقد تحدث اليها الماركيز بسرعة بالأسبانية , وشعرت أيفين بالنظرة الباردة التي مقتها بها المرأة .
" أمرك يا دون خوان".
ثم أنحنت وأنسحبت من الغرفة , فقال:
" طلبت من مدبرة المنزل أعداد غرفة لك , اسمها آلما , وستجدينها معينة".
نظرت اليه أيفين في حيرة , أنه يتولى رعايتها كأنها هرة صغيرة وجدها عند عتبة بابه , ولكن ليس في تصرفاته أي شعاع من حنان , فهمست شاكرة بأحساس العارفة بقلة حيلتها , لعله قد دعاها للبقاء لكي يدرس أنطباعها عن قلعته , تمنت لو أنه في مقدورها معارضته , قال:
" سترين البحر من غرفة نومك , أنه بحر فاتن".
جفلت من وصفه للبحر بالفتنة , أنها لم تنس بعد أن البحر جرفها في عتمته كحطام سفينة , ولم تكن لتنسى الخوف والوحدة.

سألها دون خوان وعيناه تطالعان خواطرها:
" أتفهمين لغتنا؟".
" عبارة من هنا وأخرى من هناك".
" يمكنني القول أنك ستفهمين الكثير قبل مغادرتك للجزيرة , وربما تسعدني وصايتي عليك".
أثارت فكرة الوصاية أيفين , أنها وصاية الشيطان , وقفت وأمسكت بصحن العنب ونظرت الى ثيابها في المرآة المعلقة على الحائط , وفجأة بدأت تضحك , وأذا بالهستيريا التي كتمتها تنطلق من كيانها فلم تكف عن الضحك , ورغم ضحكها , انسابت الدموع على وجهها , وأمرها المركيز بألتزام الهدوء , وبكت عندما رفع يده وصفعها متعمدا.
أرتعدت وتأوهت , وأحست بألم خدها , ووقفت كطفل حزين , الدموع في عينيها والصفعة على وجهها , وكرهت المركيز من كل قلبها , قال لها بهدوء:
" لا هستيريا بعد الآن , عليك التصرف بوقار أتفهمين؟".
ذرفت الدموع من عينيها الواسعتين في سكون:
" ولماذا ؟ ألم أقل أنني كنت مجرد خادمة عند أمرأة مدللة أنانية".
أمسك ذقنها ورفع وجهها المبلل بالدموع لكي يتأمله مليا بلا رحمة وقال:
" أيفين , لك أسمساحر وعليك العيش في سحره".
أصابعه التي أمسكت بذقنها وهي بذاتها التي صفعته , كان قاسيا فوق تفهمها , وقبل أن يسلمها الى مدبرة منزله , أخرج منديلا من جيبه وطلب منها أن تمسح عينيها وقال:
" غدا تنسين الباخرة الغارقة , أتفهمين؟ أذهبي وأستريحي , وستتحسن حالتك".
مسحت عينيها وشعرت بالتعاسة , ما أجمل أن تجد الفتاة في الأزمات شخصا حنونا , ولكن ما أبعد ذلك الزمان الذي كان والدها يفيض عليها بحبه.
وفي هدوء أعادت اليه المنديل , فوضعه في جيب سترته المخملية السوداء , كان في يده اليسرى خاتم به ياقوتة واحدة حمراء , وكانت الياقوتة تتلألأ وسط سواد سترته , ألوان شيطانية تناسب تماما رجلا على شاكلة المركيز دي ليون.
تبعت أيفين مدبرة المنزل وصعدت السلم الدائري الى غرفتها , وعرفت من الجدران والنوافذ المقوسة أنها أعطيت غرفة في برج القلعة , وفتحت المدبرة بابا داخليا كشف عن حمّام يكسوه الفيشاني المذهب والأخضر .
قالت مدبرة المنزل بصوتها القاسي:
" هذا هو الجناح الخاص , ودلّت أيفين على صنبور الماء الساخن والبارد , وفتحت خزانة علقت بها المناشف وتحتها صابون وأسفنجة , كان في أحد أركان الحمام مغسلة من البورسلين , وأدركت أيفين في الحال أنها تنعم بخصوصية تامة في هذا الجناح من البرج.
وأبتسمت لمدبرة المنزل التي لم تبادلها الأبتسام , ووجدتها تنظر الى ثيابها بأزدراء , وتذكرت أيفين غطرسة الخدم في بيت آل ساندل , قالت:
" حسنا, سآخذ حماما".
وفهمت المرأة الكلمات الأنكليزية وقالت:
" ستجد الآنسة على السرير قميصا وروبا , أن السيد المركيز أمر بأحضار ثياب للآنسة من البلدة".
وتعجبت أيفين:
" هناك بلدة؟".
ورفعت آلما حاجبيها وقالت:
" بالطبع , القلعة منعزلة هنا..... ولكن على مسافة ستة أميال هناك محلات وفندق ومسرح , وبيوت كبيرة في ميناء بورتو دي ليون , وأصدقاء المركيز لهم بيوتهم هناك".
( ما أسعدني بمعرفة كون الجزيرة غير منقطعة عن االمدنية تماما! )
وأمسكت أيفين بقطعة صابون كبيرة من زيت الصنوبر وتشممت رائحتها الذكية , أن الحمام ثم النوم في السرير الكبير بالغرفة المجاورة سيعيدان عافيتها اليها.
" هل تود الآنسة تناول فنجان شاي؟".
" بكل سرور , أذا أمكن ".
ومرة أخرى رمقتها آلمها بنظرة مؤنبة , وقالت:
" لسنا من المتوحشين في هذه الجزيرة , منذ سنوا وأحد أفراد أسرة دي ليون يتولى الأشراف هنا , وأمثال السيد المركيز هم من علية القوم".
وعلقت أيفين قائلة:
" أن المركيز يبدو محبا لطريقة حياته الخاصة".
" الأسباني عادة سيد في بيته , والمركيز أكثر من ذلك , فأمجاد عائلته مسجلة في كتب تاريخ أسبانيا يا آنسة".
ولم تشك أيفين لحظة في أقوالها , فتاريخ عائلته الأقطاعي مكتوب على وجهه , وعميق في دمه وعظامه , قد يكون كريما ولكنه يستطيع أن يكون قاسيا أيضا.
وقالت أيفين لكي تواصل الحديث:
ط لا بد أن الجزيرة رائعة للغاية".
" تستطيع الآنسة أن ترى بعينيها , تعالي".
وقربتها آلما من أحدى النوافذ المطلة على الخارج, وفي الحال , أستطاعت أيفين سماع صوت البحر كأنه ريح في أغصان الأشجار العالية تتنهد في قلق , وتهمس بأسرارها, وأستطردت آلما :
" أنظري الى البحر".
وتطلعت أيفين حيث أشارت آلما فرأت البحر بزرقته الفيروزية , والصخور الشبيهة بالأبراج تعانقه بأستمرار , وتستحم برغوته التي تتكاثر حينا وتتلاشى حينا آخر , وتطاير شعر أيفين بالهواء المالح الذي تجمع حول غرفتها , وشعرت كأنها هنا أسيرة الساحر الأسمر سيد القلعة.
كان صوت مدبرة المنزل بالقرب من أيفين وهي تقول:
" البحر يهمس , وستسمعينه ليلا , وسيبدو كصوت أحد البشر , أعلمي يا آنسة أن عروسا من آل ليون ماتت فوق هذه الصخور منذ زمن طويل".
ألتقطت أيفين أفاسها وأبتعدت عن النافذة , وألتقت بعيني مدبرة المنزل ورأت فيهما كل معاني عدم الترحيب , والعزم عل أثارة أعصابها.
" كانت صغيرة في مثل عمرك , ومن بلد غريب مثلك , وتميل الى المشي بمحاذاة صخور القلعة مع كلب صيد من نوع كانت الأسرة تحب دائما تربيته , وقد جذبها الكلب بتقدمه الى حافة الصخور وبعدها غابا معا".
هذا ما قالته آلما وهي تتجه الى الباب وتخرج قائلة:
" سآتي لك بأبريق الشاي يا آنسة بعد الحمام".
أنغلق الباب بعد أبتعاد مدبرة المنزل المتشحة بالسواد , وأرتعدت أيفين بعدما ترامى اليها صوت البحر ودخلت الرياح من النافذة الخشبية محملة بنكهة الملح والرمل والزهر , ووجدت نفسها مسحورة بصوت غيّبته الصخور والأمواج.
ولأول مرة ألقت نظرة فاحصة على غرفتها فوجدتها جميلة للغاية ....وأشبه بغرفة صممت لشخص جاء ثم غاب........ أو لأمرأة لم تأت ولم تعش بها , كان السرير واسعا وعليه أغطية جميلة مطرزة وعليها الحرف الأول لأحد الأسماء , والمصباح المجاور للسرير من الفضة والخشب المحفور كبقية الأثاث , وفي الغرفة مقاعد صغيرة مريحة وكرسي أسترخاء طويل من الطراز ذاته , وفوق أرضية الغرفة سجادة سميكة في زرقة البحر.
وقارنت أيفين بين هذه الغرفة وبين الغرفة التي كانت تشغلها لدى آل ساندل , والتي غصّت ببقايا أثاث قديم من غرف البيت الأخرى .
وترامي الى سمعها , وكما لو كانت غارقة في حلم , رنين أجراس كنيسة قريى تختلط بصوت البحر.
( في خطوط كفك مفترق طرق) هذا ما سبق أن قالته لها غجرية رومانية عجوز في معرض ساحة سانت بليز قبل أسبوع من سفرها مع أيدا ساندل , في الرحلة البحرية التي أنتهت بكارثة , يومها كانت تتجول في المعرض بمفردها , وتستمع الى الضحكات السارة التي ترددها الفتيات الآخريات مع رفاقهن , وكانت تتمنى من أعماق قلبها أن تخبرها الغجرية بأنها ستلتقي على ظهر الباخرة بفارس أحلامها.
وألتقطت أيفين أنفاسها وصورة الأسباني الطويل الأسمر غير المبتسم الذي قدّم اليها المأوى المؤقت تملأ عينيها , ولكنه ليس بالشاب الساحر فتى أحلامها.... لقد أخافها بوجهه الجامد وملامحه البارزة وعينيه الحزينتين وساقة التي يجرها.
أن دعوته لها بالبقاء هنا سخرية منه.... ولكن ترى أي شعور أثارته في هذا الرجل الذي يعيش وحيدا في قلعة البحر؟

اضغط هنا للمرور الى الفصل 2

No comments:

Post a Comment

اقرا المزيد