Recent Tube

test

اخر الاخبار

Post Top Ad

Your Ad Spot

Saturday 9 December 2017

رواية " تناديه سيدي" للكاتبة: فيوليت وينسبير الفصل 10


10- موجة تضيئها النجوم

أرتسمت الأبتسامة على شفتيها وهي تعبر القاعة متجهة الى طاولة صغيرة قديمة الطراز , ووضعت على صينية للرسائل بطاقة الدعوة التي كتبتها بتينا غرايسون للمركيز.
أنه سيرى البطاقة عند عودته , لعله قد أمضى المساء مع راكيل ووالدها , ولعلها أبلغته أنها ستذهب الى حفل التوديع الذي يقيمه آل غرايسون على ظهر يختهما قبل الأبحار يوم السبت , وهكذا يحضر الحفل مع راكيل ويتعرف الى كينيت.
وأسرع قلبها في الخفقان عند مرورها بالغرفة الذهبية في طريقها الى غرفة نومها , وتذكرت الموسيقى التي عزفها لها المركيز , وتذكرت الغضب الذي تأججت ناره عندما أمرها بألا تعامله كعاجز ضعيف , والليلة يعم الغرفة الذهبية الظلام كما أن البيانو صامت , والمركيز مع المرأة التي سيكون لها عما قريب كل الحق في أبقاء غرف القلعة على حالها أو أدخال ما يحلو لها من تغييرات وفق ذوقها وشخصيتها , ولن يتدخل دون جوان , إنه سيدلل المرأة التي ستجيء الى هنا وتبعده عن وحدته.
منتديات ليلاس
صعدت أيفين بسرعة الدرج المؤدي الى غرفتها , وهي تعرف أن عليها الليلة قبول عرض كينيت والأبحار معه هو وأمه , في مدريد قد تسنح لها الفرصة بأن ترى دون جوان مع زوجته , أما في أميركا فلن تكون هناك فرصة كهذه بسبب بعد المسافة.
وقبل أن تأوي الى فراشها , فتحت خزانة ثيابها وألقت نظرة أخرى على الثوب الذي أستأجرته لمهرجان الغد , أن تنورته من المخمل القرمزي اللون وفي نهاية ذيلها شريط أسود , أما القميص الصغير الأسود فهو أيضا من المخمل وأزراره فضية , وأكمامه مشقوقة تكشف عن كشكشة البلوزة الصفراء اللون , وقد أبتاعت عدة سلاسل من المرجان والفضة تناسب هذا الثوب , وكذلك طرحة أسبانية مطرزة , وقد جربت أرتداء ذلك كله أمام المرآة.
كان ضوء المصباح الموجود الى جوار المرآة ينعكس على السوار الذي أعطاه لها كينيت , والذي تتدلى منه القطع الصغيرة الدقيقة , لمست حدوة الحصان لعلها تجلب لها الحظ , والتفاحة الدقيقة للأغواء , وتأملت القلب الذهبي الصغير وسرحت بخيالها , معظم الناس يتوفون الى أن يكونوا محبوبين , والحب بالنسبة الى كل منهم يعني شيئا مختلفا , إنه يعني العاطفة أو الأمن , والرفقة بدلا من الوحدة , والتفاهم , ويدا تمسك بها في الظل أو في الشمس.
تلاقت عينا أيفين بعينيها هي في المرآة , وقد أنعكس فيهما ما تتوق اليه : أنه الحب الذي تنشده , ولكنه من نوع جميل لم يسمع به أحد أنها كلمات الشاعر الأنكليزي بيتس , وهي تعبر عما يتوق اليه قلب أيفين , حب ليس مثله آخر , حب يخفق له القلب من الخوف والنشوة , حب يسري في كيانها ويبقيها في السحاب دوما , ضحكت وحدثت نفسها قائلة : أيفين , يا لك من بلهاء رومانسية , وأبتعدت بسرعة عن المرآة , ولكن التوق لم يفارق عينيها.
منتديات ليلاس
كانت متدثرة بغطاء الفراش , وكان الوقت متأخرا عندما سمعت المركيز يعود في السيارة , وسمعت باب السيارة وهو يغلق , وتصورته وهو يعرج صاعدا الدرج الموصل الى قاعة القلعة , ثم..... يتوقف الى جانب طاولة الرسائل , ويتناول بطاقة الدعوة ويتأملها لحظة قبل أن يفتحها , وبعدئذ يستند على عصاه الأبنوسية ويقرأ البطاقة , إنه لا يعرف آل غرايسون ولكنه سيذهب الى الحفل لأن راكيل ستكون هناك , ولعله يذهب أيضا ليشبع فضوله بالنسبة الى المرأو الأميركية وأبنها , ولا بد أنه قد علم الآن أن أيفين شوهدت هنا وهناك حول الجزيرة برفقة كينيت غرايسون.
طلع فجر المهرجان مشرقا مشمسا , وسمعت أيفين رنين الأجراس في الدير وفي الكنيسة بالميناء , أنها دقات المهرجان تمتزج بالشمس الساطعة على البحر , وفي جو يتأرجح بين المرح والجدية لبست ثوب المهرجان ونزلت الى باحة الحديقة لتناول الأفطار وهي ترتديه , كانت قد ضفرت شعرها وسبكته كالتاج , وتوقفت أمام مرآة في القاعة وتأملت صورتها في الثوب الجديد.
إطار المرآة القديمة الطراز جعلها تبدو كأنما تطلع من زمن بعيد .. ثم ضغطت بيدها على صدرها من شدة خفقان قلبها عندما بانت في المرآة قامة المركيز واقفا خلفها.
قال بصوته العميق:
" صباح الخير يا أيفين".
وشعرت بعينيه تغمرانها , وهو يتطلع الى كشكشة البلوزة الصفراء والقميص المخملي , والتنورة الطويلة القرمزية , وأخيرا قال في أعجاب:
" أنت جذابة يا صغيرتي , أشبه بسيدة من الجزيرة , تعالي , نقطف لك قرنفلة تضعينها في شعرك".
قدم لها يده ليرافقها الى حديقة القلعة , وسرى في كيانها تيار من النشوة يجمع بين الدفء والبرودة في آن , وأثناء سيرهما ألقت عليه نظرة خجولة , سألته:
" هل أنت ذاهب الى المهرجان يا سيدي؟".
أبتسم بطريقته المهذبة وهو ينظر الى عينيها , وقال :
" طبعا , يحسن بي أن أستمتع بهذا المهرجان الخاص المسمى موكب آدم وحواء , أنه مهرجان داخل الجزيرة منذ زمن طويل على يد عروس من أسلافي , كانت من أقليم غاليشيا ( أسبانيا القديمة ) , وقد شعرت بالحنين الى موطنها والأشياء التي خلفتها وراءها , فأقنعت زوجها بأحياء الموكب الذي كان يقام سنويا في جبال غاليشيا , وها هو الآن يقام سنويا في الجزيرة ".

قالت أيفين وهما يهبطان الدرج الحجري العريض الى الحديقة وقد عبق الهواء بشذى القرنفل :
"ما أروع ذلك".
أخرج دون جوان مطواة صدفية من جيبه وقطع عنق زهرة لا تزال ندية , وقدمها الى أيفين بأنحناءة صغيرة , فغمرها الحياء وأرتعشت يدها قليلا وهي تثبتها في شعرها , وقالت:
" إنه يوم رائع للمهرجان".
" لقد أتخذت الترتيبات لكي نشاهد الموكب من شرفة قصر رئيس البلدية , أنها تطل على الساحة مباشرة , والموكب سيتوقف هناك وكذلك فرقة الموسيقى ةالرقص".
قال دون جوان ذلك وهو يقودها للجلوس الى المائدة المعدة للأفطار في باحة حديقة القلعة , وسرّها أن تجلس أذ لم تعد قادرة على الوقوف.
" دون جوان........".
" نعم يا صغيرتي".
وصب عصير البرتقال من الأبريق ووضع كوبا أمامها , أرتشفت قليلا من العصير وتمنت لو أنه كان هذا الصباح أقل لطفا وأقل تأكدا من طاعتها عندما حدّثها عن التنظيمات التي أعدها لحضور المهرجان.
" لديك شيء تودين قوله يا أيفين؟".
" ما أحلى القرنفل وشذاه هذا الصباح".
منتديات ليلاس
ثم أبتسمت بعصبية عندما أقبل الخادم لويس ووضع البيض المقلي على المائدة وطبقا فيه قطع لحم صغيرة مقلية , ولمعت الشمس فوق أبريق القهوة , وتوترت مرة أخرى بعدما غادر لويس في سكون , ولم يعد هناك غير رنين الأجراس وطنين النحل , أخذت بيضة مقلية وبعض اللحم ومسحت قطعة خبز بالزبدة بدون أن تجرؤ على النظر الى المركيز , لماذا أصبح متعذرا عليها التحدث اليه؟ لماذا هذا التوتر ؟ لقد كان لطيفا بما فيه الكفاية ولكن على نحو متباعد , أزداد خفقان قلبها , كأنما عرف أنها آثرت أن تمضي يوم المهرجان مع كينيت غرايسون.
قال وهو يمسح فمه بفوطة صغيرة وحذت أيفين حذوه وتلاقت عيناها بعينيه:
" أيفين يبدو أنك عصبية بسببي , إذا قمت بأجراءات أخرى بخصوص اليوم فأرجو أن تقولي ذلك , أنا لن أقطع رأسك أو أحجزك هنا".
نظرت اليه في تعجب , وعندما رأته يبتسم أرادت فقط أن تدخل السرور الى قلبه , ولكن إذا هي ذهبت معه الى المهرجان ستكون راكيل هناك وستبدو راكيل فاتنة ومذهلة , ستكون هي السيدة الأسبانية الحقيقية ولن تعرف عيناه غيرها.
أعترفت بعصبية :
" لدي ترتيبات أخرى , إذ وعدت شخصا آخر بقضاء يوم المهرجان معه".
" أحد الشباب؟".
أحتست قليلا من القهوة ثم قالت:
" نعم , لعلك سمعت عن آل غرايسون من راكيل , الأم الأميركية وأبنها الشاب , أنهما لطيفان وقد أصبحت صديقتهما , آمل ألا تمانع؟".
" وهما اللذان يقيمان حفلة على ظهر اليخت , ثم يبحران ظهر الغد , أليس كذلك؟".
أومأت برأسها وسألته:
" سيدي , هل تأذن لي بقضاء النهار مع كينيت؟".
" برغم كل الأعتبارات يا صغيرتي , فقد أمضيت معه كل أيام الأسبوع الماضي , وأكره أن أحرمه اليوم من رفقتك خاصة أنه سيبحر غدا".
لمحت الأبتسامة الساخرة التي أرتسمت على شفاهه وشعرت فجأة برغبة مؤلمة في أن تقول له أنها ستغادر الجزيرة مع آل غرايسون , أنه شيء عليها أن تصارحه به غدا , فلماذا لا يكون الآن ؟ لعل ذلك يكدر عليه المهرجان , وربمل يؤلمه قليلا أنها أختارت الذهاب بعيدا الى هذا الحد حتى لا يلتقيا ثانية.
كانت على وشك أن تبوح له عندما لمحته ينظر الى السوار الذي أعطاه أياها كينيت , والذي آثرت أن تضعه اليوم في معصمها في ثوب المهرجان لكي يجلب لها الحظ ويمنحها الشجاعة , أمسك معصمها وقال:
" لم أر ذلك من قبل ! هل هو حلية أشتريتها بنفسك؟".
" كينيت أشتراه لي".
" فهمت".
وأشتدت قبضته على معصمها حتى كادت أن تصرخ من الألم , ولمحت في عينيه غضبا خفيا , وأضاف:
" تعرفت على هذا الشاب مدة تقل عن أسبوع ومع ذلك تقبلين منه هدية هي في نظر الأسبان علامة خطوبة".
" كينيت أميركي يا سيدي , ولا أظنه يعرف الكثير عن عادات الأسبان".
" هل تعرفين يا أيفين أن الأسباني في هذه الجزيرة يعطي الفتاة التي يحبها سوار المعصم الرمزي لكي يعلم الجميع أنها أصبحت له؟".
" لقد سمعت بأساور العبيد إذا كنت تعني سوارا منها".
فاهت بهذه الكلمات عبر مائدة الأفطار , وهي تشعر بالأيذاء والغضب والذعر , غير مكترثة بما قاله كل منهما للآخر لأنها لا تستطيع أن تهرع الى عيناه تنظران اليها في عمق.
أرخى دون جوان قبضته عن معصمها ولكنه ظل ممسكا به وقال بينما عيناه تنظران اليها في عمق:
" أظن أن سوار الخطوبة يعني الى حد ما قبول الزوجين بالعبودية , وهذا هو كل شيء عن الحب يا صغيرتي الرومانسية , الحب يقول : أريدك , والمرأة غير المستعدة لذلك أنما لا تزال طفلة".
داعبت أصابعه القطع الصغيرة المتدلية من السوار وقال:
" هذا الأميركي الشاب له نظرة لما هو غير عادي وفاتن , هذه تفاحة حواء , وهذا السلم الى النجوم , أهو هدية الوداع أم تذكار الحب؟".
حررت يدها من قبضته ثم وقفت وقالت :
" الأميركي يعطي الفتاة خاتما إذا كان يحبها , أنا خارجة ! الآن يا سيدي , كينيت سيكون في أنتظاري".

سألها دون جوان وهو يصب فنجانا من القهوة:
" أين ينتظرك يا أيفين؟".
" سنلتقي عند شجرة الكاتلبا قبالة الشاطىء الذي يرسو فيه اليخت".
" أرى أنكما أخترتما مكان لقاء مناسب , نحن نسمي شجرة الكاتلبا بشجرة الوداع , أستمتعي بالمهرجان يا صغيرتي , أظن أنك ستحضرين أيضا حفل التوديع في يخت الشاب؟".
" نعم يا سيدي , وهل ستكون في الحفل".
" أن السيدة غرايسون تكرمت ووجهت الي دعوة , نعم يا أيفين سأحضر الحفل , وأعتقد أن علي مقابلة أصدقائك".
" آمل أن تنعم أنت وراكيل بالمهرجان".
قالت ذلك ثم أسرعت لمقابلة كينيت , الشمس دافئة وكانت تستطيع أن تشم زهرة القرنفل التي قطفها دون جوان لها , كانت تريد أن ترتدي الطرحة الأسبانية ولكنها تركتها في غرفتها , وفضّلت أن تسرع في الخروج من القلعة , هي تريد أن تكون مع كينيت , الشخص غير المعقد , وتريد أن تنسى نفسها معه في المهرجان وأن تضحك وتمرح وألا تفكر في الغد.
كان ينتظرها وهو يدخن سيكارة , تحت شجرة الكاتلبا التي تظلل المعبر المؤدي الى الشاطىء , والهواء يمتلىء برائحة البحر.
ركضت اليه كأنها تطير , وألقى كينيت بسيكارته وتعانقا , كانت فرحة ودمعت عيناها قليلا وهي تقول:
" هل جعلتك تنتظر طويلا؟".
" كنت مستعدا للأنتظار اليوم كله , أنت أشبه ببطلة في حكاية شعبية... كأنك رابونزل التس سعت الى الهرب من البرج لمقابلة حبيبها".
أمسك يدها ونظر الى أعماق عينيها وسألها:
" أهذا وحده يومنا أم لنا الغد أيضا وكل الأيام التالية؟".
" هيا نذهب الى المهرجان وننعم أولا بكل ما في يومنا".
كانت لا تزال عاجزة عن أن تلزم نفسها بأي كلمات أو وعود.
كانت شرفات البلدة تزدان بالزهور والسجاجيد الأسبانية الزاهية والشالات الحريرية , وتغص بعائلات في ثياب المهرجان , يضحكون ويعزفون الغيتار ويلقون القرنفل على المارة.
قوارب الصيد في الميناء تعلوها الزينات , والنساء والفتيات في ثياب زرقاء أو قرمزية جذابة , وعقودهن وأقراطهن الطويلة تلمع تحت أشعة الشمس كلما تحركت رؤوسهن وأثارهن أعجاب الشبان , مراوح النساء المطرزة أو الحريرية أشبه بأجنحة في الهواء , والنسوة كالفراشات الى جانب الرجال في بدلاتهم القاتمة وقمصانهم المكشكشة وقبعاتهم العريضة السوداء , وكان بعضهم يلف خصره بوشاح قرمزي أو أزرق.
جراس الكنائس تعلو فوق مرح وضحكات جموع الناس في المهرجان , والصغار يجرون هنا وهناك يلقون بعقود صغيرة من الزهور على رؤوس الغواني اللواتي تم أختيارهن لموكب آدم وحواء , وكان الباعة في الشوارع يبيعون كعك اللوز وشراب اللوز المثلج.
توقفت أيفين ومرافقها بجانب أحد الباعة وتناول كل منهما كوبا من الشراب المثلج , وأخذا يراقبان رقصة الجيغ السريعة التقليدية على أنغام الطبول والدفوف ونوع غريب من القرب الموسيقية , وفي ركن آخر من الساحة كان فريق من الغجر يقدم رقصاته , والعربات القروية تأتي من التلال مزدانة بالزهور , تحمل المزيد من الناس في ثياب زاهية.
كان أشبه بمهرجان تاريخي من مهرجانات الماضي , وكانت أيفين مأخوذة ومتلهفة لرؤية كل شيء , ورفعها كينيت الى عتبة نافذة حجرية في أحد بيوت الساحة بحيث يمكنها أن تشاهد على أفضل نحو مشاهد الموكب أثناء مروره , وقد شعرت بدفء كتفه تحت يدها.... وفي الوقت نفسه شعرت فجأة بدافع للنظر الى أحدى شرفات قصر شامخ في الساحة.
هناك رأت دون جوان الى جانب راكيل ووالدها , كانت راكيل ترتدي ثوبا أنيقا أزرق وقد غطّت شعرها الفاحم اللامع بطرحة بيضاء مطرزة تتلألأ ماساتها تحت الشمس , أحست أيفين كأن قلبها يثب هلعا , كانت راكيل تبدو أشبه بعروس وهناك قرنفلة صغيرة في عروة سترة المركيز.
سألها كينيت:
" أهذا هو ؟ أهذا هو الوصي المهيب الطويل القامة الواقف بجوار دونا راكيل المتألقة؟".
أومأت برأسها .
ونظر كينيت الى دون جوان ثانية وقال :
" أجل , أنه أصغر بكثير مما كنت أظن , أنهما هو وراكيل يؤلفان زوجين رائعين.... ومن يكون الأسباني الآخر الواقف وراءها ؟ إنه يرتدي ثياب مصارع الثيران!".
تأملت أيفين الأسباني الذي كان يرتدي فعلا ثياب المصارع , كان يضحك ويلوح للجمهور المحتشد تحت الشرفة , وتذكرت أيفين قول راكيل ذات مرة أن مصارع ثيران مشهورا طلب يدها وأنه يتردد على زيارة الجزيرة من حين الى آخر لكي يتقدم الى خطبتها.
وبينما كانت أيفين تراقب شرفة القصر , رأت دون جوان ينحني برأسه ويهمس بشيء الى راكيل , أبتسمت ونظرت الى المصارع ووضعت يدا نحيلة على كم دون جوان , ولمعت أشعة الشمس على ماسات السوار الذي يحيط بمعصم راكيل كنار ملتهبة فوق كم دون جوان القاتم.
أبتعدت أيفين بنظرها ناحية أخرى , في هذا الصباح بالذات قال لها دون جوان على الأفطار أن الرجل في الجزيرة لا يزال يعطي الفتاة التي يحبها سوارا لكي يعرف الجميع أنه يريدها , وراكيل بالطبع إنما تطلب سوارا ماسيا يناسبها , ودون جوان يعطي بسخاء حتما لمن يقول لها ( أنا أريدك).
أقترب صوت فرقة موسيقية وعم الطنين الحشود المرتقبة , وأقبل الموكب الى الساحة وحمل الآباء أطفالهم على أكتافهم حتى يمكنهم أن يلقوا بعقود الزهر , وأخذت الفتيات يرقصن للشبان ...... حواء تغري آدم.
لمست أيفين سوارها , ولكنها لم تقو على رفع بصرها الى كينيت , وهذا المهرجان هو أحتفال للحب ! الغواية تفوح في الهواء , وفي وسعها أن تستسلم الآن وتقول له خذني بعيدا عن الجزيرة.
كانت على وشك أن تتحدث وإذا بصوت يصيح ويهلل لهما : ( يوهوا ! ) أنها بتينا غرايسون مع بعض الأصدقاء , قالت:
يا أعزائي كنا نبحث عنكما في كل مكان , أليس هذا ممتعا , يقولون أننا الآن , على وشك أن نرى آدم وحواء!".
وصل الموكب وأمطر الجمهور الشخوص التي تمثل آدم وحواء ومن يحيط بهما من الراقصات والراقصين بالزهور , وكان الشيء الذي لفت أنتباه أيفين أن الرجل الذي يمثل آدم لم يكن شابا صغيرا وإنما رجلا ناضجا وكانت الفتاة التي تمثل حواء تحمل باقة زهور بيضاء وسلة برتقال ( أهل البلدان الجنوبية يعتقدون أن البرتقالة هي فاكهة الغواية ) وكان ثوبها الأبيض الطويل يحيط به زنار ذهبي على شكل أفعى , وحول شعرها شريط حريري أبيض , إبتسمت لآدم وقدمت له البرتقالة من سلتها , هز آدم رأسه بشكل حاسم , وألقى أبتسامة على جمهور المحتشدين وضحك الجميع.
وعندما نظرت أيفين ثانية الى شرفة القصر , كان رئيس البلدية وجماعته قد تركوا الشرفة وعادوا الى داخل القصر , وبعد مرور الموكب بدأ الناس يتفرقون جماعات , وغادرت أيفين مع آل غرايسون وأصدقائهم , ومر نهار المهرجان كالحلم بالنسبة لها.
لقد شاركت في الضحك والرقص وأكلت الفاكهة وتركت المرح يغمرها كموجة من النسيان , ومرت الساعات بسرعة , ولما بدأت الأضواء الملونة في الظهور على أمتداد الميناء , قال آل غرايسون أن الوقت قد حان للعودة الى اليخت:
" ها هو الدلفين الأزرق!".
قال كينيت ذلك وهو يشير الى اليخت عندما نزلوا الدرج المؤدي الى الميناء , كانت حبال المصابيح الملونة مضاءة واليخت راسيا على الميناء المعتمة كسفينة خيالية.
وفتنت أيفين لحظة خاطفة بجمال منظره , ثم أدركت على الفور أنها لا تستطيع مواجهة الذهاب الى ظهر اليخت , لم تعد تستطيع أن تواجه المزيد من الناس أو الموسيقى أو الطعام أو أي سشيء آخر من مرحها المزيّف.
" آسفة يا كينيت!".
قالت ذلك وسحبت ذراعها من ذراعه وشعرت أن سوارها قد سقط من معصمها , أندفعت مذعورة تصعد الدرجات وتشق طريقها وسط زحمة المتجمعين في الميناء لمشاهدة الألعاب النارية , سمعت كينيت يناديها ولكنها تابعت جريها , لم تنظر الى الوراء ولم تتوقف حتى عندما أرتطم ذراعها بجدار الميناء , أخذت تسرع وتعض شفتها بألم وتشعر بخلو معصمها من السوار , لم تعد تسمع صوت كينيت وكانت تأمل أن يسامحها لتصرفها غير السليم , يجب أن تكون وحيدة ! إن التفكير في الأضطرار الى الأبتسام والتظاهر بالمرح لثلاث أو أربع ساعات أخرى كان أكثر مما تستطيع تحمله , أرادت أن تشعر بنسيم البحر يداعب وجهها ولكن ليس على ظهر يخت مزدحم بالمدعوين , أرادت أن تستمع الى همس الأمواج وأن تجد بعض الراحة لقلبها الذي كان يتوجع طوال النهار تحت قناع التظاهر بالبهجة.
أخيرا توقفت وهي تلهث ووجدت نفسها وحيدة على الشاطىء , كانت أضواء البلدة على مسافة بعيدة خلفها , وتبدو كسلسلة من الماس , وسرعان ما بدأ عرض الألعاب النارية في السماء ورأت أن تراقبها من هذا الموقع.
أخذت نسمات البحر تداعب شعرها وتنعشها , وكانت النجوم ساطعة جدا وتلقي ظل فضي على البحر , وجمال الليل يعزف على أوتار قلبها , وتقدمت الى حافة ماء البحر المندفع بموجات واهية ويلقي بأحجار وأصداف صغيرة.
وفجأة تاقت الى الشعور ببرودة الماء على قدميها فخلعت حذاءها وجوربها وتخطت موجة متكسرة على الشاطىء تضيئها النجوم , كان الماء يغمر قدميها العاريتين فشعرت بأسترخاء أعصابها , أتراها جنت لتفضل هذا على حفل التوديع وما فيه من رقص وموسيقى وكل ما لذ وطاب.
وحدها على الشاطىء , وكان في مقدورها أن تكون محط الأنظار على ظهر اليخت بصحبة شاب أزرق العينين , سيكون متكدرا لأنها هربت منه , وسيغضب دون جوان لأنها لن تكون حاضرة في الحفل وتسمع تمنيات المقربين له بالسعادة مع راكيل .
تحسست بأصبعها الكدمة التي أصابتها في ذراعها من جراء أرتطامها بجدار الميناء , ووقفت تائهة وسط أفكارها بينما الأمواج تدغدغ كاحليها , كان ظهرها قبالة الشاطىء الصخري الذي ينحدر صعودا الى الطريق العام الممتد من البلدة والذي يشتد أنحداره عند قطعه للتلال , لم تكن السيارات التي تعبر هذا الطريق كثيرة ولكن أيفين لم تسمع السيارة التي توقفت عند الجانب الآخر من الطريق , أن أنحدار الطريق هو الذي مكّنه من أن يشرف على الشاطىء ويرى الفتاة الواقفة عارية القدمين عند الأمواج المتكسرة , كان شعرها الطويل يتطاير مع الريح وكانت وحيدة وشبه تائهة.

كل شيء كان هادئا , ثم سمعت صوتا يناديها:
" أيفين أهذا أنت يا صغيرتي؟".
سمعت إسمها كأنها في حلم وكأن البحر هو الذي ناداها , وأستدارت ببطء وإذا في أعلى الشاطىء يقف شخص أسمر الوجه طويل القامة , لا أحد غيره يزيد من سرعة دقات قلبها ولا أحد غيره يسيطر عليها بنظرة , ويغريها بدون كلمات , ويتعرف على أحتياجاتها قبل أن تدركها هي ذاتها.
" دون جوان!".
سمعت نقرات عصاه على الصخور وأدركت أنه يهبط اليها , لم يكن الشاطىء مستويا , وربما يؤذي ساقه , وفجأة أخذت تركض نحوه عبر الرمال وتلاقيا بقلق متزايد , وتعانقا وغابا عن الوجود لحظة.
" أهذا أنت !".
ضحكت ضحكة قوية وقالت:
" من تظن تكون غير صغيرتك المجنونة؟".
" هكذا ظننت ! من غير أيفين تلهو بقدميها في الماء وحدها , وشعرها يتطاير مع الريح , ولا تهتم بالحفلات وتثير قلق وصيها؟".
نظرت الى عينيه فإذا فيهما بريق عاطفي:
" كنت آمل ألا تقلق علي , ظننت أنك مشغول ببأشياء أخرى هذه الليلة بالذات , ولماذا تعيرني أي أهتمام؟".
قال مازحا:
" ولماذا حقا؟ ". ثم رفع شعرها من فوق عينيها , وأمسك بيدها ووجدها ترتعد فقال:
" هل تشعرين بالبرد ؟ لا بد أن الأمر كذلك فقدماك عاريتان , أين حذاؤك وجواربك؟".
أشارت الى الشاطىء.
" في مكان ما , ألن تغضب راكيل لأنك تركت الحفلة وجئت تبحث عني؟".
" ولماذا تغضب راكيل؟".
قال ذلك ثم أبعد شعرها الطويل عن عنقها ورفع وجهها لكي تتطلع اليه.
" كان في معصمها سوار الخطبة , رأيتها معك في المهرجان , وكانت تبدو كالعروس ".
" عما قريب تكون عروسا".
سرت رعشة في كيان أيفين , وأبتعدت عنه قليلا , فسألها:
" هل دبّت الغيرة فيك لسماعك أن راكيل ستتزوج ؟ وهل تتمنين أن تكوني محلها ؟".
" كلا.....".
وفجأة أنقلب بريق عينيه الى الضحك وقال:
" تقولين كلا يا قنفذة البحر الصغيرة , لأن راكيل ستتزوج مصارع ثيران شابا ظل يطاردها بإلحاح حتى أنها في النهاية لم تستطع مقاومته , ألم أقل لك أن الأسباني يقول أنا أريدك ؟ وأية أمرأة يمكنها مقاومة من يريدها ؟ أيمكنك أنت؟".
سألته :
" ومن يريدني؟".
وشعرت أنها أصبحت ضعيفة أمامه كالماء , المصارع أذن هو الذي ستتززوجه راكيل ؟ وليس المركيز دون جوان ! ها هو هنا أمامها يغيظها.... كأنه يعلم بشعورها نحوه , وألتهب غضبها وقالت:
" لقد هربت من كينيت أمام أصدقائه , كذلك عرف ريك أننا أمضينا معا ليلة الضباب سويا ...... أو هو على الأقل عرف أنني كنت ليلتها مع رجل".
" ألم تقولي له أنني كنت ذلك الرجل؟".
" كيف أستطيع ذلك ؟ عندئذ تتوقّع الجزيرة كلها زواجك مني".
" وأنت ألا تحبين هذا ....... أن تكوني زوجتي؟".
" دون جوان.........".
وفجأة لم تعد تتحمل المويد:
" أريد أن أرحل , أرجوك دعني أرحل!".
" وإلى أين ترحلين؟".
" ‘لى مدريد أو أميركا كمرافقة للسيدة غرايسون".
" أنها أمرأة لطيفة , ولكن بعد فترة سيرهقك العمل , وربما تنتابها الغيرة قليلا كلما تطلّع إبنها اليك , وتصر في النهاية على أن تربطي شعرك , وتخفي عنه أغراء عينيك العسليتين بوضع نظارة , كلا ! هذا لن يحدث ما دمت حيا ! إمكثي معي يا أيفين , تذكري أنني تعهدت أن أصونك وأحفظك أمرأة شريفة؟".
" ولكن لا أحد يعرف......... أنك أنت الذي كنت معي ليلة الكوخ".
" أذا لم توافقي هنا الآن على زواجنا , فسأعمل على أن تعرف الجزيرة كلها".
" ولكن لماذا؟".
" لأنك بريئة للغاية , ولأنني أريدك , ولأنك بالنسبة لي فتنة العالم كله , أحب وجهك الأغريقي وأساليبك الصغيرة في التقرب مني ثم الأبتعاد عني , في أول الأمر حدّثت نفسي بأن لا حق لي فيك لأنني أكبر منك سنا , ولأن لي هذه الساق التي تجعلني أعرج , ولكن إذا لم آخذك , فإنك ستعودين الى عبودية إمرأة متسلطة , ولأنه من الأفضل بكثير يا صغيرتي أن يسيطر عليك رجل يحبك الى حد يحيّره".
همست:
" أنا؟".
" أنت يا أيفين , ويمكنني حتى أن أحتمل عدم حبك فترة , ولكنني مصمم على أن أجعلك تحبينني , أريدك , أريدك رفيقة حياتي , وسأصونك وأعتز بك على الدوام , وهذه الكلمات بالنسبة للأسباني أشياء ثابتة".
" ولكن المركيز لا يتزوج من خادمة".
" هذا المركيز يفعل تماما ما يريده , أنك خلقت للعيش في قلعة , يا حبيبتي , وقد أنتظرتك القلعة وأنا أيضا لكي تأتي الى هنا وتضفي عليها نضارة شبابك وضحكك , أيفين , هل تحكمين عليّ بحياة الوحدة ثانية؟".
" أوه , كلا !".
عانقته طويلا وأضافت:
" أذا كنت تريدني فأنا لك , وإذا حدث في مرات أن إبتعدت عنك فذلك لأنني كنت أريد كثيرا الأقتراب منك".
داعب شعرها بأصابعه القوية وقال:
" هل أعتقدت أن راكيل على وشك أن تكون عروسي؟".
" كان يبدو بينكما أشياء كثيرة مشتركة".
" أشياء كثيرة , ولكن لم يكن الحب بينها".
رفع وجهها وأبتسم بشكل أذاب قلبها وقال:
" تعالي يا صغيرتي , نذهب الى البيت , الى قلعتنا؟".
أومأت برأسها , ولم يفه بكلمة فقلبها يفيض بالحب , وزادمن سرورها أن كينيت سيبحر غدا بدونها , تاركا إياها حيث يريد قلبها , وحيث يتوق قلبها الى البقاء على الدوام .... في بيتها..... في قلعة حبيبها دون جوان.

النهاية 

للعودة الى الفصل 9 اضغط هنا 

ضع تعليقا لتشجيعنا على جلب افضل اللروايات 

No comments:

Post a Comment

اقرا المزيد